في المؤتمر الصحفي الذي عُقد بالبيت الأبيض أول أمس، وجه "مارك سيلفا"، الصحفي بجريدة "شيكاغو تريبيون"، سؤالاً ذكياً وحذراً في نفس الآن: "سيدي الرئيس لا أستطيع إلا أن أقرأ تغيراً في لغة جسدك هذا الصباح، واسمح لي أن أقول بأنك تبدو محبطاً بعض الشيء". ورغم أن الرئيس جورج بوش ظهر أمام الصحفيين كطفل انتزعت منه لعبه الأثيرة على نفسه، فإنه جاهد أمام الكاميرا للحفاظ على روحه المرحة وحرص على أن يتبادل النكات مع الجمهور. وسرعان ما انتقل الصحفيون بعد ذلك للحديث عما إذا كان الرئيس منزعجاً من مسألة "الهوة في المصداقية" مع الشعب الأميركي بالنظر إلى الحقائق التي خذلته في العراق واليوم في إيران، فضلاً عن التصريحات الإعلامية التي تتهم الرئيس بعدم مصارحة الشعب فيما يتعلق بنفقات الحرب المرتفعة. ورغم أن بعض مساعدي الرئيس بوش سارعوا إلى وضع سيناريوهات تورط وكالات الاستخبارات الأميركية في مؤامرة لإحباط مساعي الرئيس الرامية إلى شن حرب ضد إيران، فإن بوش أصر على أن لديه "شعورا إيجابيا عن الحياة"! وقد اعتبر بوش أمام الصحفيين أن التحول الجذري والمحرج في تقديرات الاستخبارات الوطنية بشأن قدرات إيران النووية- من الثقة العالية عام 2005 بأن الملالي منكبون على تطوير القنابل النووية إلى الثقة العالية من أنهم أوقفوا ذلك عام 2003- جاء ليؤكد بطريقة ما صحة تقديراته السابقة! والواقع أنه إذا كان بوش قادراً على صياغة المعلومات الاستخباراتية لتتسق مع تصوراته القائمة على رؤية دينية مثلما حدث في العراق، وبالتالي فهو مستعد لتصديق تلك المعلومات مهما بدت غير قابلة للتصديق؛ فإنه قادر أيضاً على تجاهلها، مهما بلغت درجة صدقيتها هذه المرة، إذا لم تنسجم مع تصوراته الثابتة حول إيران. ورغم أن صحفي التحقيقات "سيمون هيرش" سبق أن أعلن بأن البيت الأبيض كان يعلم، على أعلى مستوى، بالنتائج التي تفيد بأن إيران أوقفت برنامجها للأسلحة النووية، وبأن "ديك تشيني" أبقى التقرير طي الكتمان، فإن بوش يصر على أنه لم يُبلغ بالمعلومات إلا قبل أسبوع. وقد ذهب البعض الآخر، ممن حاولوا التخفيف من شدة الحرج الذي يعانيه بوش هذه الأيام، إلى أن الرئيس تعمد السماح بصدور التقرير حتى يضع حداً لضغوط الصقور في إدارته. واللافت أن بوش بعد تفنيد خطابه الناري حول احتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة في حال اكتسبت إيران التكنولوجيا النووية، وجد الشجاعة الكافية للجوء إلى منطقه المعوج والتساؤل عن سبب الدعوة إلى تغيير سياسته! والأكثر من ذلك أن "جون بولتون"، والذي لا بد أنه كان يراقب بوش في وضعه الحرج، قال لأحد الصحفيين "إن محللي الاستخبارات يريدون أن يعوضوا فشلهم في العراق بالتهوين من التهديد الإيراني"! ويبدو أن ما تعرض له "جورج تينيت"، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، والذي دعم صقور إدارة بوش من أمثال "بولتون" و"تشيني" في مزاعمهم بشأن وجود أسلحة دمار شامل لدى العراق ليُضحّى به عندما ساءت الأمور لاحقاً، أيقظ الاستخبارات من سباتها. فبعد الفشل في العراق، ثم في إيران عام 2005 وغيرها من الإخفاقات الأخرى حتى بعد تخصيص ميزانية مالية ضخمة للاستخبارات، بدأت هذه الأخيرة تنأى بنفسها عن كوارث جديدة قد يتسبب فيها "المحافظون الجدد" الذين ما فتئوا يقرعون طبول الحرب ضد إيران. ويعبر عن هذا التحول الذي طرأ على أجهزة الاستخبارات الأميركية "تيم فينر"، الصحفي في "نيويورك تايمز" الذي ألف مؤخراً كتاباً حول وكالة الاستخبارات المركزية قائلاً "إنه تحول كبير بأن بدأت سي.أي.إي تعترف بأخطائها وتتفادى المواقف التي قد تنال من مصداقيتها أمام الرأي العام". والغريب فعلاً أن بوش الذي أسدل حجب السرية والكتمان على الحقيقة طيلة السبع سنوات الماضية، برر استمراره في اعتناق النظرة الأيديولوجية الواهمة حول العالم، بكونه لا يريد أن "يحجب" عن نفسه حقائق العالم! ــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"